طروحات علمية مثيرة للجدل تستهوي شركات الاختبارات الجينية
الاثنين – 22 شعبان 1439 هـ – 07 مايو 2018 مـ رقم العدد [ 14405]
ربط كثير من العلماء مئات الجينات بالذكاء، ولكن واحدا من علماء النفس قال إن الوقت حان لاختبار ذكاء الأطفال في المدارس.
هل أنتم جاهزون لاختبار للحمض النووي «دي إن إيه» تكلفته 50 دولارا، تتمثل وظيفته في التكهّن باحتمالات حيازتكم على شهادة دكتوراه، أو التوقّع باسم الطفل الذي سيدخل إلى روضة متميزة؟ يؤكّد روبرت بلومين، الخبير المتخصص بعلم الوراثة السلوكي أنّ هذا التحليل في طريقه إلينا.
دراسات الذكاء
عمل الباحثون المتخصصون بعلم الوراثة لعقود على تحديد العناصر الوراثية الكامنة خلف الذكاء، إلا أن الحظّ لم يحالفهم. ولكن الدراسات الجينية توصّلت اليوم أخيراً إلى معلومات كافية ودامغة لتحديد النسخ الجينية المرتبطة بمعامل أو نسبة الذكاء IQ.
ونسبة الذكاء – بالإنجليزية Intelligence Quotient أو IQ – هي النتيجة التي يتم الحصول عليها من اختبارات لقياس درجة الذكاء. وتتحدد نسبة الذكاء بقسمة «العمر العقلي» للشخص (بعد إجرائه الاختبارات)، على العمر الزمني له، وتضرب بـ100. ويعتبر الرقم 100 هو متوسط الذكاء عند الإنسان، وكلما زادت النتيجة اعتبر الشخص عبقرياً.
قبل عام، لم يكن العلماء يربطون بين أي جين مع قوة الأداء في الاختبارات الخاصة بنسبة الذكاء. ولكن منذ ذلك الوقت، تمّ تحديد 500 جين على صلة بالأداء من خلال دراسات جينية شملت 200 ألف مشارك في الاختبار. وبذلك، أصبحت نتائج الاختبارات التي تربط بين الحمض النووي لمليون شخص وبين نجاحهم الأكاديمي متاحة في أي وقت.
يشير بلومين، وهو باحث أميركي يعمل في جامعة «كينغز كوليدج» في لندن، حيث يجري دراسة طويلة الأمد تشمل 13 ألف توأم بريطاني، إلى أن هذه الاكتشافات تعني أنه أصبح بإمكاننا أن نقرأ الحمض النووي الخاص بالأطفال الصغار للحصول على فكرة عن درجة الذكاء التي قد يتمتع بها كلّ واحد منهم في المستقبل.
تحدّث بلومين عن فكرة اختبار معدّل الذكاء في ورقة بحثية صدرت في يناير (كانون الثاني) بعنوان «علم الوراثة الجديد الخاص بالذكاء»، موضحاً أنّه بإمكان الآباء والأمهات أن يستخدموا هذه الاختبارات المتاحة للمستهلكين بهدف وضع توقّعات حول قدرات أولادهم الفكرية واتخاذ القرارات المرتبطة بحياتهم المدرسية، في إطار مفهوم أسماه التعليم الدقيق.
في الوقت الحالي، يمكن القول إن التوقعات لن تكون شديدة الدقّة، لأن متغيّرات الحمض النووي التي تمّ ربطها بنتائج الاختبار تشرح أقل من 10 في المائة من اختلافات الذكاء بين أبناء الأطفال البريطانيين الذين خضعوا للدراسة.
محاذير اجتماعية
ولكنّ النشرة الصادرة عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا اعتبرت أن جوانب من اختبار ببلومين بدأت تُطبق فعلياً. فقد باشرت ثلاث خدمات على الأقل، بينها «جين بلازا»، و«دي إن إي لاند»، بتوفير وسيلة اختبار يحدّد معدّل الذكاء الجيني بواسطة عينة من اللعاب.
في المقابل، فضّل آخرون الانتظار، وصرّحت «23 أند مي»، واحدة من أكبر الشركات التي تقدّم تقارير صحية استهلاكية تعتمد على الحمض النووي أنّها لن تقدّم للناس حساباً لمعدّل ذكائهم خوفاّ من ألا تكون المعلومات المتلقاة وافية ودقيقة.
تفاعل كثير من الباحثين بريبة مع التطورات الجديدة، محذرين من أنّ اختبارات الحمض النووي يجب ألا تستخدم لتقييم آفاق الأولاد الأكاديمية. وقالت الباحثة الاجتماعية كاثرين بليس، من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، وصاحبة كتاب يناقش استخدام علم الجينات في العلوم الاجتماعية: «الفكرة هي أننا سنحصل على هذه المعلومات في كلّ مكان نذهب إليه، وكأنّها رقاقات لتحديد الهوية بموجات الراديو، أي أنّ الجميع سيعرف من أنتم، وما أنتم عليه، وبالنسبة لي، هذا الأمر مخيف جداً».وتقول بليس: «إنّ الحياة في عالم يُصنّف فيه الناس بالاعتماد على قدراتهم التي لم تولد بعد هو أمر معقّد. هذا ما يُعرف بعلم تحسين النسل».
دور الجينات
من وجهة نظر علماء النفس، يقيس اختبار نسبة الذكاء ما يعرف بالـ«g»، العنصر العام للذكاء general factor of intelligence، أي أنّ الأشخاص المتفوقين في الرياضيات، والمنطق المكاني، والقدرات الكلامية، وغيرها من المهارات سيحصلون في هذا القياس على مقدار أعلى من «g».
وهذا ليس كلّ شيء، إذ إن عامل «g» يرتبط بشكل كبير بالدّخل، والسعادة، والصحة، وأمد الحياة، أي أنّ ارتفاع الـ«g» يحمل معه الكثير من الأمور الإيجابية… ويعتبر بلومين أن هذا العامل «متغيّر كلّي القدرة» في الحياة.
كما أنّه وراثي بنسبة كبيرة. فقد أظهرت المقارنات التي أجريت بين التوائم، المتطابقة والأخوية، والتوائم التي انفصلت عن بعضها عند الولادة أو تربّت مع بعضها، أنّ الجينات الوراثية تحدّد أكثر من نصف الذكاء، أي أنّ الجينات لها تأثير هائل. أمّا الباقي، فيعتمد على المدارس والأنظمة الغذائية وغيرها من العناصر البيئية.
ولكن ما هي الجينات المسؤولة؟ لم تذهب الدراسة في بدايتها بعيداً في هذا الأمر، فقد فشل بلومين في اكتشاف أي روابط أثناء بحث شمل 7900 طفلا في 2010. ثمّ تورّط بعدها في مغامرة فاشلة مع «بي جي آي»، شركة صينية متخصصة بدراسة التسلسل الوراثي، زوّدها بالحمض النووي لأكثر من ألف عبقري أميركي. فخرجت الدراسة عن مسارها بعد تقارير إخبارية اتهمت الشركة الصينية بنصب فخّ لإنتاج ذرية من «الأطفال العباقرة».
تحقّق الهدف في تحديد الجين المنشود أخيراً في مايو (أيار) 2017. فقد أظهرت دراسة ألمانية أن البنية الجينية لـ78308 أشخاص خضعوا للاختبارات (يضمون 2825 من التوائم الذين استعان بهم بلومين) استقرت على متغيرات وراثية في 22 جيناً مرتبطاً بنتائج معدل الذكاء. في مارس (آذار)، ارتفع العدد سريعاً إلى 199 ألف شخص و500 جين. ويقول بلومين إن تقريراً مرتقباً سيوضح الروابط القائمة بألف جين.
يحتوي كلّ متغيّر جيني عُثر عليه حتى الآن على تأثير طفيف، يلعب دوراً لا يذكر إمّا في رفع مستوى الذكاء أو خفضه. ولكن ما هي الحيلة المعتمدة لتحويل نتائج البحث إلى اختبار لمعدل ذكاء يعتمد على الحمض النووي؟ يكفي أن نضيف علامات الإيجاب والسلب التي نعثر عليها في جينوم شخص محدّد.
تُعرف هذه الأنواع من التقييمات بالـ«نتائج متعددة الجينات». تكتسب هذه التقييمات سريعاً أهمية متزايدة، لأنها تجرى لسمات كثيرة تجاوزت الألفين حتى اليوم، من بينها أمراض القلب والسكري والفصام.
سارع بلومين فوراً إلى الخضوع للاختبار، فقدّم العام الماضي عينة من لعابه في أنبوب وتمّ احتساب نتائج حمضه النووي في مركز بحثه الخاص، التي يستعرضها اليوم خلال المحادثات. بيّنت هذه النتائج أنّ عالم النفس يواجه مخاطر كبيرة بالإصابة بالتهاب المفاصل، واحتمال 94 في المائة بالمعاناة من زيادة الوزن، مقابل احتمال طفيف بالإصابة بالاكتئاب.
بالنسبة لبلومين، الذي يقارب وزنه أحيانا الـ108 كيلوغرامات (240 رطلا)، يشرح طالعه الجيني أنّ المعركة الأكبر في حياتك هي مع النشويات والسكريات. يقول بلومين: «سيقول الناس: لا يمكنك أن تفعل شيئاً حيال هذا الأمر، لأنك سمين بالوراثة. ولكنّه في الواقع سيساعدني في معرفة هذه الحقيقة، لأعيش معركة مستمرة مع السمنة».
وأخيرا اعتبر بلومين تصنيفه المئوي الخاص بالأداء الأكاديمي والذي بلغ 99 نقطة، محرجاً.
بين الذكاء والغباوة
صرح بعض العلماء بأنهم لا يعتقدون أنّ اختبارات نسبة الذكاء ستقدم للناس أي معلومات مفيدة، ولا يعرفون السبب الذي يدفع بلومين للقول إنها ستفعل.
يقول دانيال بوستوما، الذي قاد دراسة كبيرة حول نسبة الذكاء عام 2017: «لن نتمكّن يوماً من النظر إلى حمض أحدهم النووي وإعلامه بأن معدّل ذكائه سيكون 120. إن استخدامه بهذا الشكل لن يكون منطقياً. أنا شخصياً سأكتفي بإعطاء الناس اختباراً لمعدّل ذكائهم». وتلفت بوستوما إلى أن اهتمامها الأساسي هو اكتشاف كيف يعمل الدماغ في مستوى عادي، حيث يمكن للعثور على جينات مرتبطة بالذكاء أن يكون مفيداً.
ولكن بلومين يشير إلى أن اختبارات نسبة الذكاء التي تعتمد على مكعبات ملونة، بالكاد تعطي نتائج مع الأطفال الصغار، وتفشل في التوصل إلى أرقام دقيقة في اختباراتهم المستقبلية. ولكن لا بدّ من التذكير بأنّ حمض الإنسان النووي موجود من لحظة ولادته، ولا يشهد أي تغيّر لاحق. يقول بلومين إنه وفي أولى مراحل حياة الإنسان، قد يلعب الحمض النووي دوراً في تقديم توقعات حول الذكاء أفضل من أي اختبار آخر.
ولكن المشكلة الأساسية هي الدقّة أو عدمها. حالياً، ترصد النتائج متعددة الجينات جزءا فقط من المحددات الجينية للذكاء وليس المحيطية منها، مما يعني أن التوقعات لا تزال ضبابية.
ويبدو هذا الأمر، أي قلة الدقة، جليّاً في بيانات بلومين نفسها وذلك بعد أن احتسب مركز أبحاثه النتائج الجينية المتعددة لمئات التوائم الذين تابعهم منذ ولادتهم، والذي يحتفظ بعينة من حمضهم النووي في ملفات. ثم وبعدها، قارن نتائج الجينات مع أداء التوائم (الذين أصبحوا اليوم في العشرينات) في اختبار أجري في أرجاء المملكة المتحدة، خضع له الجميع خلال مرحلة المراهقة.