في منزل بأحد أحياء محافظة الجيزة (جنوبي مصر)، بدأت معاناة (أ. م)، أم لطفلتين، مع بدء ظهور أعراض التأخر الذهني المصحوب بنوبات متكررة من التشنج والترنح على ابنتيها. رحلة الفحص الطبي الطويلة قادت الأم إلى إحدى عيادات الوراثة بالمركز القومي للبحوث، بعدما نبهها العديد من الأطباء إلى أن التشخيص الطبي للطفلتين يشير إلى احتمالات الإصابة بمرض وراثي. لتبدأ جولة جديدة من التشخيص الطبي الوراثي للطفلتين بعد أن بلغت الأولى أربعة عشر عامًا، والثانية عشرة أعوام!
وأظهرت الفحوصات الأولية لدماغ الطفلتين غياب مسببات وقوع نوبات التشنج أو الترنح المعتادة في مثل هذه الحالات، وظل السؤال الرئيسي بلا جواب: ما سبب الأعراض التي تعاني منها الطفلتين؟
حتى توصلت إلى الإجابة دراسة بحثية نُشرت في إبريل الماضي، في المجلة الأمريكية للجينات البشرية (The American Journal of Human Genetics)، نشرها عدد من الباحثين من دول مختلفة، بينهم الدكتورة مها سعد زكي، باحثة مصرية في قسم علم الوراثة بالمركز القومي للبحوث، إنه الجين «بيج» PIGG… جين جديد ينضم إلى قائمة الجينات التي تتسبب في حدوث التأخر الذهني لدى الأطفال.
المسح الجيني
ويعود حدوث التأخر الذهني لدى الأطفال إلى عدة عوامل، لعل أبرزها وجود زيادة أو نقص في أعداد الكروموسومات، وقد يحدث بسبب نقص الأكسجين في أثناء الولادة، والذي يؤثر بدوره على خلايا المخ.
وتؤدي الجينات والعوامل الوراثية أيضًا دورًا في إصابة الأطفال بالتأخر الذهني، إلا أن الحالات التي رصدتها الدراسة وجدت -وللمرة الأولى- اقترانًا بين وجود هذا الجين وإصابة الأطفال بنوبات من التشنج والترنح، وهي أعراض لم تقترن من قبل بالجينات.
بدأ الفريق البحثي في عمل مسح جيني لخمس حالات جرى التعرف عليها في عامي (2012- 2013)، وذلك بعد فشل التعرف على الجين أو مطابقته بالجينات الأخرى المعروفة بأنها تسبب التأخر الذهني. وهدف المسح إلى التعرف على العوامل الوراثية والبيئية المصاحبة لظهور الجين، وما إذا كانت الأم تعرضت لمشكلات في أثناء الحمل أو أن الأمر مرتبط بعوامل وراثية، وهنا برز التشخيص الإكلينيكي للتعرف على الجين.
ومن خلال التشخيص الإكلينيكي أمكن التعرف على مدى تطابق الجين لدى الطفل المصاب مع جينات الوالدين، أو مع جينات شبيهة تسبب المرض. وقد بدأ الفريق البحثي في دراسة الجين من خلال أخذ مسحة من جلد المريض والوالدين، وتحويلها لخلية عصبية تُحقن بها حيوانات التجارب لملاحظة تأثير هذا الجين على النمو الدماغي والوظائف الدماغية لدى الحيوانات.
البحث عن إجابة
تعرف الفريق البحثي على الحالات المشابهة للجين الجديد من خلال سؤال طرحته الباحثة المصرية الدكتورة مها زكي، على قاعدة بيانات إلكترونية تسمى (Matchmaker Exchange)، تمثل تجمعًا علميًّا لعلماء الوراثة، لمعرفة ما إذا كان هناك حالات لديها جينات تشبه ما اكتشفته في مصر، وجاء الرد سريعًا من اليابان وباكستان.
وكانت الإجابة هي الجين «PIGG». و«بيج» هو الاسم الجديد للجين الذي جرى رصده في حالتين من مصر، وأُخرَيين في باكستان، كان الوالدان (الأب والأم) في الحالات الأربع قد تزوجوا من أقارب لهم، وهو ما لم يحدث في الحالة اليابانية الخامسة.
لماذا الأقارب؟ لأنه قد يكون كلا الأبوين حاملًا للجين المتنحي أو الخلل الجيني المسبب للمرض. وهناك بالتالي فرصة أكبر لتحديد الجين المسؤول عن هذه المتلازمة من خلال دراسة أفراد آخرين من أسرة الأقارب المتضررين.
وقد وجد الباحثون من خلال الدراسة الوظيفية للجين، والتي امتدت لستة أشهر، أن الجين “PIGG” عنصر مهم في سلسلة إنتاج بروتين يسمى إنزيم فوسفتيدلينوستول الغليكان “GPI”، والأخير جزيء مثبت للبروتينات في غشاء الخلية، وإن حدثت طفرة في هذا الجين فقد يؤدي ظهوره على أسطح الخلايا العصبية إلى التأخر الذهني، مصحوبًا بنوبات من التشنج والترنح. وعلى الرغم من أن أشعة الرنين المغناطيسي التي أجريت على أدمغة الأطفال المرضى أظهرت نموًّا طبيعيًّا بالدماغ، كان الأطفال يعانون خللًا في وظيفتي الإدراك والحركة بفعل هذا الجين.
الأمراض الإنزيمية
تتكون الپروتينات من الأحماض الأمينية، وهي وحدات أصغر ترتبط معًا في سلسلة طويلة، يحدد تركيبها وطريقة طيها وظيفة الپروتين. كما يحدد تتاليها تسلسل جزيء الدنا في الجين المعني.
وتشكل الپروتينات البناء التركيبي للجسد البشري، وتشتمل أيضًا على الإنزيمات التي تعد عوامل مساعدة تؤدي دورًا مهمًّا في إنجاز التفاعلات الجارية في الخلايا، عبر عملية التحفيز البيولوجي بغرض تسريع معدل التفاعلات الكيماوية الحيوية. من هنا فإن نقص أحد الإنزيمات أو غيابه يمكن أن يكون له عواقب وخيمة على الصحة.
“لم يتوصل الباحثون بعد لعلاج جيني يمكنه اختراق حاجز الدماغ إلا في أمراض قليلة”، هذا ما قالته الدكتورة مها زكي، عضو الفريق البحثي لـ«للعلم»، لافتة إلى أن علاج الأمراض الإنزيمية على مستوى العالم لا يزال يتقدم ببطء.
ترى د. مها زكي أنه من المهم في محاولة العلماء التوصل إلى علاج للجينات التي تسبب التأخر الذهني، العمل على منع وقوع هذه الإصابات من الأساس، من خلال التوعية بأسباب حدوثها.
وتأمل زكي أن تتوفر الإمكانيات اللازمة لعمل المسح الجيني الكامل للمرضى في مصر، وأن تتوفر كذلك إمكانيات إجراء الدراسات الوظيفية دون اللجوء لباحثين دوليين لتنفيذها، لافتة إلى أن تكلفة المسح الجيني للحالة الواحدة مرتفعة جدًّا.
سجلات الأجيال المتعاقبة
ووفق ما أشارت إليه الباحثة الرئيسة للدراسة الدكتورة يوشيكو موراكامي، الباحثة في معهد بحوث الأمراض الميكروبية بجامعة أوساكا اليابانية، في مقالها المنشور في إبريل الماضي، على موقع “”science daily، فإن نتائج التجارب المعملية على الجين المكتشَف، أثبتت دوره في إحداث خلل بالجهاز العصبي الدماغي لحالات الدراسة الخمس، وتسببه في ظهور أعراض ترافق الخلل الذهني، تتمثل في حدوث نوبات من التشنج والترنح.
في عام 2006، قام الفريق العلمي لموراكامي بالاشتراك مع فريق أبحاث بريطاني بإجراء مشروع بحثي مشترك، بهدف كتابة أول تقرير علمي عن متلازمة الموروثة GPI، واستنادًا إلى تحليل سجلات الأجيال المتعاقبة، نجحت الأبحاث تباعًا حتى عام 2010 في لفت الانتباه إلى وجود خلل وراثي جديد يسبب تأخر النمو ونوبات التشنج والصرع لدى الأطفال.
وعلى الرغم من ذلك، لا تزال بعض الأمراض التي تسبب الخلل الذهني المصحوب بنوبات من التشنج والضمور العضلي لدى الأطفال مجهولة الأسباب. ومنذ اكتشاف التغيرات الحادثة في الجين PIGG كمسبب، أصبح من الممكن الآن تشخيص متلازمة PIGG للاضطرابات التي لم يكن تشخيصها ممكنًا من قبل.
ومع نتائج هذه البحوث، يتطلع الباحثون إلى توفير التوعية الصحية والاختبارات الطبية اللازمة للمرضى الذين يعانون من هذا النوع من الإصابة المرضية وأسرهم.
زواج الأقارب
يقول الدكتور شريف الخميسي -أستاذ الطب الجزيئي، ومدير مركز الجينوم بمدينة زويل-: إن الجين الجديد الذي توصلت له الدراسة يعد إضافة لقائمة الجينات التي تسبب التأخر الذهني، وما يميزه أنه يتسبب في ضمور وظائف الخلايا العصبية بإحداث خلل في اتصال الخلايا العصبية بالخلايا المحيطة بها، مما يفسر ظهور أعراض مثل التشنج على المرضى حاملي الجين، وهو ما لا يظهر في تصوير المخ بالأشعة.
وفيما يتعلق بزواج الأقارب أحد أسباب ظهور الجين، لفت الخميسي -في تصريحات لـ”للعلم”- إلى أن مركز الجينوم سبق له أن نشر دراسة بحثية منذ عامين في مجلة «نيتشر» تتناول أسرتين، إحداهما في مصر والأخرى في هولندا، ظهرت لديهما مشكلات مرضية بسبب زواج الأقارب.
وأضاف أنه منذ أربع سنوات نُشرت دراسة عن اكتشاف جين جديد في السعودية بسبب زواج الأقارب، وهو جين ينتشر بشكل كبير بالبلدان العربية.
وتؤكد د. مها زكي أن «زواج الأقارب» سبب رئيسي لظهور هذا الجين لدى الحالات التي اكتُشفت في مصر، لافتة إلى أن علم الوراثة يمكنه أن يسهم في مواجهة الإعاقة الذهنية من خلال تشخيص الحالات واكتشافات الجينات المسببة لها. كما تؤكد أنه على الأسر المصرية اتخاذ التدابير اللازمة، كالفحص المبكر؛ لتجنب تكرار تلك الحالات في الأجيال القادمة.
وتضيف: لا بد من نشر الوعي بمخاطر زواج الأقارب وما قد يترتب عليه من ظهور جينات تتسبب في حدوث تشوهات خلقية للأطفال، موضحة أنهذا النوع من الزواج منتشر بنسب مرتفعة في مصر، وبخاصة في إقليم الصعيد.
وفي هذا الإطار، تشدد موراكامي على أن الهدف من الطب الوراثي هو تحليل كل الجينات التي تشكل الجينوم البشري، من أجل تحديد الأمراض الوراثية المحتملة. وتضيف أن كل تغير جيني محتمل لديه القدرة على إظهار عيوب محددة، وأنه من بين كل الأمراض الوراثية، هناك الأمراض التى تُعرَف بأنها «أمراض متنحية»، والتي تحدث فقط عندما يكون كل من الأب والأم حاملين لنفس الجينات المعيبة التي يمكن أن تنتقل إلى أطفالهم.
ولفتت موراكامي إلى أنه من المتوقع -في حالة الجين بيج- أن يظهر الجين، سواء في العائلات التي تشهد زواج الأقارب أو غيرها. وأضافت أنه من خلال التشخيص الوراثي للحالات المصابة يمكن أن تجرى تجارب مستقبلية بغرض تحليل وظائف الجين الجديد للوصول إلى علاج محتمل.